الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله، يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم، لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء، كما أوضح تعالى ذلك في قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.[محمد صلى الله عليه وسلم: 24- 28] فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر، من أن يقول للذين كفروا، الذين يكرهون ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة، ويكفيه زجرًا وردعًا عن ذلك قول ربه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم} [محمد صلى الله عليه وسلم: 27] إلى قوله: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [محمد صلى الله عليه وسلم: 28].قوله تعالى: {الله يجتبي إليه مَن يَشَاء ويهدي إليه مَن يُنِيبُ}.الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء.وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه تعالى يجتبى من خلقه من يشاء اجتباءه.وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير} [الحج: 77] إلى قوله: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية.وبين في موضع آخر أن منهم آدم وهو قوله تعالى: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122]. وذكر أن منهم إبراهيم في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] إلى قوله: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجتباه} [النحل: 121] الآية. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين.وقوله تعالى: {ويهدي إليه مَن يُنِيبُ} أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله أي يرجع إلى ما يرضيه، من الإيمان والطاعة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء ويهدي إليه مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}.هو معطوف على قوله تعالى: {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}.. الذي هو من صفات اللّه سبحانه وتعالى، الذي يحيى الموتى، وبقدر على كل شيء، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه.. فهو سبحانه الذي يقضى في هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ، وعن طريق الإيمان.وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ}.. أي قل لهم أيها النبي: ذلكم المتصف بتلك الصفات، هو ربى الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، الذي عليه توكلت، فجعلت ولائى له، ومعتمدى عليه، والذي إليه أرجع في كلّ أمورى، وأتوب إليه من كل ذنب.قوله تعالى: {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.هو من عطف البيان على قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب، هو {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، أي خالقهما، وموجدهما ابتداء، على غير مثال سبق.. ومنه الفطرة، وهى أصل الخلقة.ويمكن أن يكون هذا وما بعده من قول الرسول الكريم، استكمالا لقوله: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ}.. ويمكن أن يكون من كلام اللّه سبحانه وتعالى، تعقيبا على إقرار الرسول بوحدانية ربّه، وتوكّله عليه.. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه الرسول ربّا له، وتوكّل عليه، وأناب إليه- هو فاطر السماوات والأرض.وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا} أي هذا الربّ الذي خلق السماوات والأرض، هو الذي خلقكم، وهو الذي {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا} أي جعل لكم من جنسكم، ومن طبيعتكم أزواجا لتسكنوا إليها، وتألفوا الحياة معها، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا، ذكرا وأنثى لتتوالد، وتتكاثر، وتنتشر بينكم، وتتسع لحاجتكم منها، ركوبا، وحملا، وطعاما.وقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}.الذّرء: إظهار عوالم المخلوقات، التي كانت مكنونة في علم اللّه سبحانه وتعالى- ومنه الدّرأة، وهى بياض الشيب، لأنه ظهر بعد خفاء.ومعنى الآية الكريمة، أن اللّه سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة، كثرّ نسل الإنسان، وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية، من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات.والضمير في (فِيهِ) يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: {أَزْواجًا} أي تزاوجا بين الذكر والأنثى، في عالم الأحياء، من إنسان وحيوان.. فكأن هذا التزاوج هو الظرف، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء، أي يكثّركم في هذا التزاوج..وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.هو مبالغة في نفى المثلية عن اللّه سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله- تعالى اللّه سبحانه أن يكون له مثل.. فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل- أيا كان- لا يساوى من يماثله- فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل- أولى- بمعنى أنه ليس كمثل مثل اللّه شيء في هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل اللّه ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل..قوله تعالى: {لَهُ مَقاليدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ}.المقاليد: جمع مقلد، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه القلادة، لأنها تحيط بالعنق.أي أن اللّه سبحانه وتعالى، له السلطان القائم على السماوات والأرض، وبيده سبحانه تصريفهما، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا} أي ومن نعم اللّه سبحانه وتعالى، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا- أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه، وهو الدين الذي وصّى به نوحا، وهو الذي جاءكم به نبيكم محمّد، وحيا من ربه، وهو ما وصى به اللّه سبحانه الأنبياء، إبراهيم وموسى، وعيسى، عليهم السلام.وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} هو بيان لما وصى اللّه سبحانه به أنبياءه عليهم السلام، وهو أن يقيموا الدين، وأن يبلّغوه أقوامهم، وأن يكونوا جميعا على هذا الدين، دين اللّه الذي ارتضاه لهم جميعا، وألّا يتفرقوا فيه، فيكون لكل نبي، ولكل قوم دين.. إن دين اللّه واحد، هو الإسلام، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} (19: آل عمران) وكما يقول سبحانه: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (153: الأنعام).. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال أَأَقررْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالوا أَقررْنا قال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (81: آل عمران) وكما يقول النبي الكريم: «الأنبياء أبناء علّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد».وهذه الوصاة للأنبياء، هي وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين اللّه هذا، وهو الإسلام الذي كمل به الدّين، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه..ومطلوب من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه، وألا يتفرقوا فيه، فيذهب كل فريق ببعض منه، فيكون لكل جماعة دين من دين اللّه الواحد.وهنا سؤال، وهو: لماذا اختلف النظم في هذا المقطع من الآية الكريمة، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال تعالى: {ما وَصَّى بِهِ نُوحًا} ثم قال سبحانه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى} ولم يجئ النظم هكذا: «وما وصّيناك به» بل جاء هكذا: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}.فما سر هذا؟الجواب: واللّه أعلم- من وجوه: فأولا أن ما أوحى اللّه به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته وكلماته، لم يكن مجرّد وصاة.. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على أنه كلام اللّه، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل في طياته معجزة متحدية.. وهذا هو بعض السر في كلمة {أَوْحَيْنا} المقابلة لكلمة {وَصَّيْنا}.. إذ إن الوحي فيه إشارات، ولطائف، لا تنكشف إلا لذوى البصائر والأفهام، على خلاف الوصاة فإنها تجيء صريحة واضحة الدّلالة، تعطى كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة.وثانيا: أن هذا الوحي يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم هذا الوحي، ينبغي أن يتدبروه ويعقلوه، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات، وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والتصديق برسوله، وملائكته وكتبه ورسله..وهذا يعنى- من جهة أخرى- أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص الدليل والبرهان على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا، إذ كان مع الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية، التي يمكّن اللّه سبحانه وتعالى له منها..وثالثا: في الوحي بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة.. وهذا يعنى أن الذين يخاطبون بهذا الوحي هم في درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل، بحيث لا يؤخذون بالزجر والقهر، وإنما يقادون بالحكمة، والمنطق، وهذا ما يتفق والرسالة الإسلامية، التي كمل بها دين اللّه، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من الكمال الإنساني..وسؤال آخر..وهو: لما ذا لم يجئ ذكر الأنبياء على نسق في الترتيب الزمنى، فجاء ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بعد نوح، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟..ثم لماذا وقد سبق ذكره- صلوات اللّه وسلامه عليه- إبراهيم وموسى وعيسى- لما ذا لم يسبق نوحا أيضا؟والجواب- واللّه أعلم- من وجوه كذلك:فأولا: قدّم النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، على إبراهيم وموسى وعيسى، لأن رسالته هي مجمع رسالات الأنبياء عليهم السلام، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية.. إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق في الرسالات السابقة، فكان الإسلام هو الدين كلّه، دين اللّه الذي كان لكل نبي نصيب منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} (19: آل عمران) وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (33: التوبة) وقوله سبحانه: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا} (68: المائدة) وقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} (85: آل عمران).وهذا يعنى أن من آمن بالرسالات السابقة، وأقامها على وجهها، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان بالإسلام، لأنها من الإسلام، مادة وروحا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (48: المائدة).وثانيا: قدم نوح- عليه السّلام- لأنه أول الأنبياء أصحاب الرسالات، وقد كانت له دعوة إلى اللّه، وكان له قوم يدعوهم إلى اللّه، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن.. وبهذا تعتبر رسالته مفتتح الرسالات إلى دين اللّه، وهو الإسلام.. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار..وثالثا: أن تقديم نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية، يوم بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام، قوم أو كتاب، حتى يكون لتقديم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- على دعوة نوح حجة على قومه، وهيمنة على كتابه، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى، فقد كانوا بمشهد من عصر النبوة، وبمسمع من دعوة النبي، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا النبي والإيمان به، وبكتابه المهيمن على ما في صحف إبراهيم، وعلى التوراة والإنجيل.. فقد كان اليهود أتباع موسى، وكتابه التوراة، وكان النصارى أتباع عيسى، وكتابه الإنجيل، وكان المشركون على دين إبراهيم، وإن كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به..وقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إليه} هو نحس للمشركين وتبكيت لهم، وازدراء لغرورهم الذي أراهم في أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب اللّه، ورسول اللّه، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم، وأن يتناولوا من يده الدواء الذي يشفى عللهم، ويذهب بأسقامهم..لقد كبر عليهم هذا، ورأوه مما ينزل بقدرهم وينال من مكانتهم.. وإنه لعجيب غاية العجب، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو المهيمن على الكتب السماوية كلها، ومن رسول هو خاتم الرسل، ورسالته خاتم رسالات السماء، ومن دين هو مجتمع دين اللّه؟ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.. فهذا هو الدين الذي شرعه اللّه سبحانه وتعالى لهم. واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه، وخاتم رسله.. فكيف يستقبلون هذه المنّة العظيمة بهذا الكبر الأحمق، وهذا الغرور السفيه؟.وقوله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إليه مَنْ يَشاء وَيَهْدِي إليه مَنْ يُنِيبُ}..هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة اللّه سبحانه وتعالى، التي يدعو بها رسوله الناس إلى اللّه.. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه الدعوة، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم في ضيافتهم، ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه، فيستجيبون للداعى مسرعين، في غير تردّد أو إبطاء، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين، ويدخلون في ضيافة اللّه سبحانه، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي هم فيه، وأخذوا طريقهم إلى اللّه.. إن اللّه سبحانه- سيهديهم إليه، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه..{وَيَهْدِي إليه مَنْ يُنِيبُ}.وهكذا تختلف منازل الناس عند اللّه.. فأناس يجتبيهم ويختارهم، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان.. وأناس ينتظر بهم حتى يكون منهم سعى إليه، واتجاه إلى مواقع رحمته.. وعندئذ تلقاهم عناية اللّه على أول الطريق، فتقودهم إليه، وتنزلهم منازل رضوانه.. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا في ضلالهم.. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى اللّه، ولم يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم، الذين تمسك أيديهم بحبل اللّه، فيسلمهم ذلك الحبل إليه.. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك، ممن لم يرد اللّه لهم النجاة، فكانوا من المغرقين.
|